للإعلان في نشرة الفنر الثقافية أضغط هنا
للمشاركة في نشرة الفنر الثقافية أضغط هنا
سيرة ومكان
كتبت: فاطمة العالي
في لقاء أجراه الدكتور يوسف محمد إسماعيل مع الأديب والشاعر علي عبد الله خليفة متحدثاً فيه عن الشعر والتراث، مروراً بمختلف محطات حياته.بدأ الشاعر حديثه متحدثاً عن نشأته في العام ١٩٤٤م في مدينة المحرق في ” فريج القمرة ” بمنزل واقع بين براحة بن غتم وبيت بن عجلان، في حي شعبي متنوع النماذج، حيث كانت تُعرف الفرجان بأسماء أكبر بيت فيها وأكبر عائلة، والمحرق بمثابة مدرسة والحي فصل من فصول المدرسة، يهبك معاني عميقة القيمة، مثل الألفة والمحبة والتراحم، والود المتبادل بين الأسر الموجودة، ويهبك كذلك دروس أخلاقية وجمالية بلا حدود.
النشأة والجيران
وفي سؤال الدكتور يوسف محمد عن الجيران، أجاب الشاعر علي خليفة بإن من ضمن جيرانه هو عبد الرحمن المالجي والد مدرب السياقة عيسى المالجي، ومن جهة الجنوب بيت علي بن سعد، وهو رجل يعمل في الصرافة، وهو بيت كبير تحول إلى مدرسة فيما بعد، ومن جهة الشمال هناك بيت علي راشد فخرو، وهو بيت كبير ممتد إلى البحر، ومن جهة الغرب كان بيت محمد جاسم الشيراوي، وهي مجموعة عائلات في بيت كبير، هذه البيوت الثلاثة، هي التي كانت تحيط بالبيت الذي كنت أسكنه، ومن جهة الشرق كانت العائلات البسيطة، كانوا من ضمنهم بيت بن مطر، وهو جد عبد الرحمن بن سعود مسامح، وكان يُطلق عليهم بيت المطر، والجهة الشرقية في جهة شعبية وهي بيوت صغيرة، ولكن نحن محاطين من الجهات الثلاث بهذه البيوت الكبيرة.
أصدقاء اللعب
وكانوا أصدقائي الذين ألعب معهم، هم سعد بن عبد العزيز المطر، وعبد الرحمن سعود مسامح، وأسماء كثيرة من بيت بن عجلان، وحسن سلطان وهو أيضاً جارنا ويفصلنا عن منزله منزل الشيراوي فقط، وهو مدرس متقاعد، وأسماء كثيرة كنت ألعب معهم، وأيضاً كثيراً ما كنت أتخطى منطقة ” الفريج ”، وكانت لي صلة قوية في ” فريج ستيشن“ وهناك تعرفت على جاسم جيقا، ومحمد إسماعيل، وعلى حسن هاشم، كنت في نادي الخليج لفترة، وفي نادي الخليج أصدرت جريدة حائط مع خليفة العريفي، وهو درس معي في المسرح وفي المطوع أيضاً، ولكني حضرت قبله لأني أكثر قدماً منه وربما أكبر منه في السن.
المطوع والمدرسة
المطوع كان له دور كبير في حياتي ومازلت مدين بدين كبير لوالدتي لأنها أصرت على حفظي للقرآن وجعلت من ذهابي للمطوع قضية حرصت على كسبها، وكان المطوع بمثابة مدرسة، فتصور أن يكون صبي في السادسة أو السابعة تكون حصيلته من الحفظ ما لا يقل عن خمسين ألف مفردة عربية فصيحة، ويعرف معناها وتكون ضمن مخزونه اللغوي، ولذلك تأسستُ تأسيساً قوياً، وبعدها ذهبتُ إلى المدرسة التي كانت تُسمى في ذلك الوقت المدرسة التحضيرية الشمالية في المحرق، لأن لم يكن هناك مدرسة شمالية سواها، وكان هناك مدرسة جنوبية، فكانوا يسمون بأسماء المناطق، ولم أذهب إلى الأول الابتدائي، ترفعتُ فوراً للصف الثاني لأني كنتُ حافظاً للقرآن، وظللتُ فيها لمدة عامين، وبعد ذلك ذهبتُ إلى الهداية الخليفية ودرستُ فيها إلى المرحلة الاعدادية، ودرستُ بعدها في مدرسة المنامة الثانوية لأن الهداية الخليفية كانت فقط إلى المرحلة الاعدادية في ذلك الوقت، كل المراحل في حياتي كانت بمثابة بمدرسة، ولكن الهداية الخليفية لم تكن مجرد مدرسة، كانت بمثابة حيّ و“فريج ” وبلد، كان الاستاذ عبد الله فرج هو مدير المدرسة، وكان مدير شديد، وإداري من الدرجة الأولى، في هذه المدرسة تعرفت على الدكتور عبد الحميد المحادين وأستاذ عبد الله الطائي الذي أصبح وزيراً للاعلام في ابو ظبي، وهو أول من كتب في كتابه بعد أن إلتقيت به، إنه التقى طالب يتوقع له شأناً أدبياً، لم يسبق له تدريسي ولكن حينما كنت ألتقيه في ساحة المدرسة، كنت أعرض عليه بعض قصائدي ومحاولاتي، وأيضاً الاستاذ حسن النصف كان من الأساتذة الذين درسوني اللغة العربية، وأستاذ عبد الرحيم رزبة، ومجموعة طيبة من الأساتذة.
بين العمل والدراسة
أسرتي كانت شديدة الحرص على تعليمي ودراستي، ومنذ كنت في المرحلة الاعدادية، كنت أدرس في الصباح وأعمل في المساء، في التناوب بين صيدلية حسن خلف فخرو وصيدلية المحادين، أحدهما أعمل فيها منذ الثالثة ظهراً حتى الثانية عشر منتصف الليل، واليوم الآخر أعمل من الثالثة ظهراً حتى الثامنة، فأحمل واجباتي المدرسية ودفاتري وأذهب للعمل، وكان حينذاك يُذاع في الاذاعة أيهما الصيدلية المناوبة اليوم، فيُعرف أصدقائي في المدرسة من خلال الاذاعة إني كنت ساهراً ليلة البارحة في الصيدلية، وحسن الحظ هو الذي قادني إلى هذا المكان، حيث إن حسن خلف فخرو كان يريد موظفاً بصورة عاجلة بدلاً للموظف الذي يعمل لديه، لأن الآخر أصيب بظرف اضطر من خلاله للسفر، وكان اسمه عزيز نظر وأنا مدين لهذا الشخص، لأنه طلب من حسن فخرو أن يقوم بإحضار أي موظف وسيجتهد في تدريبه خلال اسبوعين ليجعله ملماً في كل شيء، وتم ترشيحي لهذه الوظيفه من خلال مدرس اللغة الانجليزية، الاستاذ حجازي، حيث كانت لغتي الانجليزية ممتازة ودائماً ما كنت احصل على المرتبة الاولى او الثانية، فسألني عن رغبتي في العمل بعد الظهر فوافقت، وفعلاً تم تعليمي كل شيء، وساعدني في ذلك فضولي للتعلم، وكانت الصيدلية بالنسبة لي بمثابة محطة، ومازلت إلى الآن ملماً بهذه الامور وبالأدوية، ومشتركاً في مجلة ” ماديسون ساينس“ الدولية، ومن ضمن الأطباء الذين تعاملوا معي، هم الدكتورة زيني، و ”دختر بسم الله ” وسُمي بهذا الاسم لأنه قبلما يخز الابرة كان يبسمل، فُسمي في البحرين أجمعها ببسم الله. قراءة الراشيتات تحتاج إلى تدريب، وتتطلب أن تكون ملماً بأسماء الأدوية لأن الطبيب يكتب أسم الدواء مختصراً بالأحرف الأربعة الأولى، وعليك إدراك أي نوع من الادوية هو، استفدت كثيراً من هذه المرحلة وبالأخص في الليال المتأخرة حينما كنت أفتح علب الأدوية وأقرأ الوصفات باللغة العربية والانجليزية، فأتعرف عليها، الصيدلية جعلتني أتواصل مع قطاعات عديدة من البشر، من مختلف فئات المجتمع، والقابلات الذين يولدون النساء، ولديهم أدوية محددة وأسئلة خاصة.
قارئاً نهماً
كنت في المرحلة الثانوية قارئاً نهماً في الأدب، وقرأت ما يقارب ٥٠٪ من الكتب الموجودة في المدرسة، وكان هناك أيام محددة لكل صف، فكنت آخذ أدوار أصدقائي الذين لا يقرأون وأستعير الكتب بأسمائهم. شعرتُ في تلك المرحلة ان الادب يتطلب قراءة، والعلوم تتطلب دراسة ميدانية، وكنت أريد الاثنين، فقرأت الأدب، ودرستُ في قسم العلمي، وكان مدرس الأحياء آنذاك، الأستاذ حرز الله، ورغم انه الآن متقاعد ويعيش في الأردن، إلى ان مازلت على تواصل معه، والاستاذ عبد الفتاح المليجي مدرس اللغة العربية، هؤلاء المدرسين هم من تركوا بصمات.
التنازل عن البعثة
في المحرق كان الجميع من طبقة واحدة، ولكن حينما ذهبتُ إلى المنامة رأيت مختلف الطبقات والعائلات الكبيرة، وكان هناك مفارقة في المظهر واللباس، وكانت مدرسة المنامة شبه جامعة في البحرين، لأن من يتخرج من الثانوية آنذاك كان كأنه قد تخرج من الجامعة، في المدرسة الثانوية كان هناك رحابة، وعدد كبير من مختلف التوجهات، كان الطلاب أبناء العائلات الكبيرة يرغبون باتمام الثانوية باسرع ما يمكن ليذهبوا إلى الدراسة في الخارج مثل بيروت ولندن والاماكن البعيدة، بينما نحن كل ما نريده ان نتخرج من الثانوية فقط. في الثانوية كنت طالباً مجتهداً، وكان مدير المدرسة آنذاك الأستاذ عبد الملك الحمر، ولم تكن هناك وسائل اتصال في ذلك الوقت، فجاء يبحث عن منزلي بعد انتهاء الدوام المدرسي، وحينما لقاني قال لي مبروك، قد مُنحت من الحكومة بعثة إلى الجامعة الامريكية في بيروت، وسُعدت كثيراً حينما، فذهبت لطلب رأي والدتي، حيث كان والدي متوفياً، فقالت أمي إلى الأستاذ عبد الملك: حينما يذهب للبعثة من الذي سينفق علينا، فقال لها : ” تبين ندرس ولدكم وبعد نصرف عليكم ؟ ”، فاضطررتُ للتنازل عن البعثة، فأمضيت على الورقة من أمام منزلي بالتنازل عن البعثة لأسباب أسرية.
الدوام في الجمارك
بدأ مدخولي في الصيدلية بمائة وستين روبية، أي ستة عشر ديناراً الآن، وبعد ذلك أصبح أعلى، وانتقلت في تلك الفترة إلى الجمارك، في دوام يومي رسمي، بواسطة المرحوم يوسف سارتر، فعملت في الجمارك بعد حصولي على الثانوية مباشرةً، وأول وظيفة كانت لي هي أن أعد محتويات الرحلات، إلى الدمام والخبر وقطر، وبعد ذلك أصبحت مثمن للبضائع في ميناء سلمان، وبعد ذلك مفتش للمسافرين في المطار، وآخر مرحلة وصلتُ هي المحاسب، والتقيت بمحمد أشرف خان، وهذا الرجل علمني مبادئ المحاسبة، وعملت محاسباً لمدة خمسة أعوام في قسم استرجاع الضرائب، وتعرفتُ أيضاً على محمد بن هجرس، وكان من الشخصيات التي تعلمت منها، وهو والد الفنان عيسى هجرس، وأحمد عيسى، وأحمد بن حسن المناعي، والاستاذ عبّاس، هؤلاء اساتذتي الذين تعلمت على منهم مبادئ العمل الحكومي، وعملت في الجمارك منذ العام ١٩٦٣م إلى العام ١٩٧٥ م.
رحلتي في النشر والاذاعة
بعد ذلك أسست دار الغرب للنشر والتوزيع، حينما كنت في الجمارك، وتعرفت على الأستاذ إبراهيم العريض، فكان يأتي إلى الجمارك بقامته المهيبة، متأبطاً بشته، وكان الجميع يستغرب حضوره إلي وأنا موظف صغير، فكانت لدي مشاركات أدبية منذ وجودي في الجمارك، وكنت أنشر في الاضواء، وفي هنا البحرين، وفي برنامج جولة في عالم الأدب، الذي يعده الدكتور عبد الله خلف من إذاعة الكويت، فحين كنت أنشر قصيدة في هنا البحرين، كانت مباشرة تذاع في البرنامج، والناس كانوا يسمعون الاذاعة في ذلك الوقت، وبين العامين ١٩٦٥ م والعام ١٩٦٧ م كنت أعد برنامج ضمى الأوتار، في إذاعة البحرين، وكانت الاذاعة أيضاً بمثابة محطة، وكان المرحوم إبراهيم كانو هو المشجع القوي لي، والتقيت أيضاً في الاذاعة بالاستاذ حسن كمال، والتقيت في عبد الرحمن عبد الله وهو كان المخرج الذي يخرج برنامجي ضمى الاوتار، وعبد الواحد درويش، ضمى الاوتار كنت أذيع فيه قصائد عربية وخليجية، وكان له مستمعين كثر وكانت تأتينا رسائل عديدة، وأعددت برنامج عالم الكلمة، وأعددت برنامج همسات الليل مع أليس سمعان، سفيرة البحرين الآن في لندن، وكانت هي المحاورة لي في البرنامج، كنت أعد حوار وجداني، لأنه كان برنامج ليلي وجداني، وأليس سمعان هي أستاذة بمعنى الكلمة في اللغة، وفي الالقاء، فتعلمت منها الكثير.
بين بلاغة القرآن والشعر النبطي
والدتي رحمها الله كانت من حفظة الشعر العامي، وكانت تحفظ كم هائل من المواويل، وكانت تردد المواويل بشكل عفوي في كل موقف، وهنا حدث تكون التوازن، في المنزل أشعار عامية ومواويل، وفي المطوع لغة عربية في القرآن الكريم في أعلى المستويات، وأنا مدين لهذه البذور الأولى في التكوين، القرآن الكريم بمكانته الدينية الرفيعة ومكانته الروحية ومافيه من لغة بلاغية راقية أسس تكويني، وفي الجانب الآخر الاشعار والمواويل كانت تطعيم للابداع.
” يعل المنايا عن حبيبي مصده، ومغلقة بيبانها بالحديد
لعلها اذا جات وأقبلت، ما تلقى على وليدي طريج ”
هذا البيت من علوم الشعر النبطي الكبير، والبذرة كانت من هنا، بالاضافة الى الموهبة واجتهادي على نفسي، حيث كنت قارئاً نهماً، قضيت سبعة أعوام من عمري بشكل يومي، في القسم الداخلي في المكتبة العامة، منذ الساعة الثالثة ظهراً حتى السابعة مساءاً، وكان هناك الأستاذ أحمد محمد جمال مسؤول في المكتبة، وكنت أداوم معه، ولم نكن نعرف بعضنا البعض، فكان يراني كل يوم ماشياً على قدمي من منطقة راس رمان حيث مكان وقوف الباصات، إلى المكتبة العامة، وفي أحد الأيام توقف لي بسيارة وزارة التربية، وأخذني معه، وعندما سألني من أي منطقة أنا، وأخبرته إني من المحرق، قال لي انه يأتي من المحرق كل يوم، وطلب مني أن انتظره يومياً على السيف ليقلني معه في السيارة، فأخذت أذهب واعود معه كل يوم، وبعدها قال لي لا داعي للوقوف على السيف، سآتي لأخذك من المنزل، فكانت سيارة المعارف تذهب لأخذ محمد جمال الذي كان موظف، وتأخذني انا معهم، وإلى يومنا هذا لم أنسى له هذا الموقف.
الاجتهاد على الموهبة
فترة التكوين في حياتي، كانت بالغة الصعوبة، لأنني حينها فقدت فرصة ذهابي للدراسة خارج البحرين، وأصدقائي بعضهم ذهب للدراسة، فخفت أن يعودون وأكون كما أنا، فأخذت علي نفسي عهداً ان أجتهد على نفسي ولا اكون أقل منهم، بل أكون الافضل، وكان لي بمثابة التحدي، فتعبت على نفسي وكانت هذه الفترة من أغنى فترات حياتي، ونوعتُ في قرائاتي فلم تكن فقط في الأدب، وصادف في تلك الفترة مرحلة المد العربي، فكانت تصدر في مصر مجلات نادرة، مثل مجلة الثقافة، وتراث الانسانية، ومجلة الكتاب، ومجلة الرسالة، ومجلة عالم المعرفة، وكانت جميعها مجلات غنية وعميقة، وأنا كنت شغوفاً في القراءة، ومازلت، أحب الاطلاع، والموهبة دون اجتهاد مثل أن يكون لك نبتة دون سقي، فيجب عليك أن تطورها وتحميها وتنميها وترويها، ولذلك اجتهدتُ على موهبتي الشعرية.
بداية النشر
أول قصيدة نشرتها كانت في العام ١٩٦١ م أو العام الذي يليه، في بريد القراء في مجلة الحوادث التي كانت تصل مئات النسخ منها إلى البحرين، لأنها كانت مجلة قومية معروفة ولها شعبية واسعة، وأرسلتُ بعدها إلى هنا البحرين قصيدة غزلية من ستة عشر بيت، فنشروا منها ثلاثة أبيات، وكتبوا في ذيلها ”أبيات أرسلها علي عبد الله خليفة“ ، فغضبتُ، فسألت عن رئيس تحريرها وقالوا لي بإن اسمه أحمد كمال، فذهبتُ له في مكتبه في وزارة الاعلام بالقرب من باب البحرين، وطلبتُ مقابلته، وكانت هي المرة الأولى التي ألتقيه فيها، وكان هو مقدماً لبرنامج في الاذاعة، وكان أديباً وكاتباً، وكان شخصاً مهيباً، فأخبرته بما حدث وكنت غاضباً، فسألني متعجباً : ” انت اللي كتبت هالقصيدة ؟ ” وقلت له نعم، فسألني مرة أخرى : ” متأكد ؟ ”، فقلت له نعم هي قصيدة من ستة عشر بيتاً ولم تنشروا سوى ثلاثة أبيات، وقلتم بإني مرسلها، وكأني سارقها، فأتصل بالاستاذ محمود المردي، وقال له سأرسل لك الشخص الذي أخبرتك عنه، وقال لي اذهب الى الاستاذ محمود المردي وبعدها عُد إلي، فذهبتُ له وقابلته بقامته المهيبة، وسألني أيضاً: ” هل أنت من كتبت القصيدة ؟ ” قلت له نعم، فسألني من أي بحر هي، فأجبته، وسألني عن تفاعيله، وأجبته أيضاً، سألني هل تعرف التقطيع؟، قلت له نعم، فطلب مني تقطيع البيت الأول، فقطعته وقلت له هذا شعر تقليدي، وأنا أكتب أيضاً شعر حر بالتفعيلة، فتفاجئ، وأريته أيضاً قصيدتي التي نُشرت في مجلة الحوادث، فطلب مني كتابة قصيدة لمجلة الأضواء، ونُشرت لي في مجلة الأضواء في العدد الخامس، بعنوان انتظار، ” جل شوقي يا حبيبي واستعر، وفؤادي ذاب من فرط الكدر“، وعدتُ إلى الاستاذ أحمد كمال الذي كان أرسلني إلى الاستاذ محمود المردي بغرض التأكد، حيث ان الاستاذ محمود عارفاً في الشعر وبحوره، فأعتذر مني على ما حدث وطلب مني ارسال قصيدة جديدة ليقومون بنشرها، فأرسلتُ قصيدة متكونة من إثنان وعشرون بيتاً، اسمها بحار لم يعد، تحكي قصة بحار ذهب إلى الغوص ولم يعد، والقصيدة كانت على لسان زوجته تخاطبه بلوعة الغياب، ونُشِرت، وهي القصيدة الوحيدة التي لم يتضمنها ديواني.
تأسيس الحركة الأدبية
في ذلك الوقت في البحرين، كنا نجتمع نحن الاصدقاء المؤسسين للحركة الادبية في البحرين في بيت المرحوم محمد الماجد، أو في بيتي، أو في بيت آخرين، كنا نجتمع عصر كل جمعة ونقرأ نتاجاتنا على بعضنا البعض، إلى أن تأسست أسرة الأدباء في سبتمبر من العام ١٩٦٩ م.
الديوان الأول واحتفاء الكويت بي
طبعتُ ديواني الأول في بيروت، حينما كنت موظفاً في الجمارك، وكان بمثابة مغامرة لي، طلبتُ قرض من الجمارك بغرض ترميم البيت، ولكنه لم يكن من أجل الترميم، بل كانت من أجل الكتاب، فكان المبلغ بحدود الثلاثمائة ديناراً، وكان مبلغاً كبيراً في ذلك الوقت، فأخبرتُ الاستاذ العزيز فاروق إبراهيم العبيد صاحب المكتبة الوطنية وهو رجل له أفضال كثيرة، وكنا زبائن في مكتبته، وسألته ان كان يعرف أحداً في بيروت، وقال انهم عملاء دار العلم للملايين، وهي كانت آنذاك دار نشر ضخمة جداً، وفيها منير البعلبكي صاحب القاموس الشهير، وبهيج عثمان، أحد الاساتذة الكبار، فأعطانا رسالة توصية لطباعة الكتاب، فأخذتها وسافرت لأول مرة، لبلد عربي، ذهبتُ إلى بهيج عثمان، وكان رجلاً مهيب بنظارة بيضاء، أعطيته الرسالة وطلب مني وضع الكتاب على الطاولة، وسألني عن مكان سكني، وقال لي بإنهم سيقومون بإخباري فيما بعد، فخرجتُ من مكتبه محبطاً، وفي اليوم التالي أخبروني في الفندق عن مكالمة لي، وكانت من بهيج عثمان، وطلب مني القدوم حالاً، وعندما ذهبتُ له قال لي ” برافو ” هذا الكتاب مادة جديدة غير مطروحة في الوطن العربي عن صناعة اللؤلؤ والغوص، ونرغب بطبعه ونحن من سنتولى توزيعه، وطلب مني الذهاب الى البابا أشهر خطاط في بيروت، وطلب منه الاسراع في خط خطوط العناوين، وكنت في غاية الفرح، فذهبتُ ورأيت الخطاط، واعطيته إياه وأخبرته إني قادماً من البحرين ونريد أن تخط الخطوط بسرعة، فاستقبلني استقبال جميل وأخبرني بأن الخطوط ستجهز في اليوم التالي، كان حظي من الديوان كبيراً، فالله سبحانه وتعالى يرسم أقدارنا هدية لنا، في قدومي في المطار التقيت بالشاعر الكويتي علي السبتي، من أشهر الشعراء، وكنت قرأتُ له ديوان ” بيت من نجوم الصيف ”، سألني عن وجهتي وأخبرته إني عائد إلى البحرين، فطلب مني الذهاب معهم الى الكويت، حيث التلفزيون والاذاعة وكل ما يساعد في تحقيق الاهداف، وقال لي بإنه سيتكفل بتحويل التذاكر وكافة الامور، وذهبت إلى الكويت، فاستُقبلت استقبال مازلت الى الآن مدين له، التقيت هناك بالدكتور العزيز سليمان الشطي، وعبد العزيز سريا، وصقر الرشود، وعبد الرحمن الصالح، والدكتور خليفة الوقيان، وخالد سعود الزيد، هؤلاء هم عماد تأسيس رابطة الادباء الكويتية، فنشروا عن ديواني في كافة الوسائل الاعلامية، وهناك صحفي فلسطيني كتب مربعاً صغيراً في جريدة السياسة عن أنين الصواري، وكان بالنسبة لي شهادة كبيرة جداً، فجئت الى البحرين جاهزاً لاستقبال الديوان، وطُبعت منه خمسة طبعات، وكل طبعة كانت بثلاثة آلاف نسخة، وكان هو أول اصدار لي، في يونيو ١٩٦٩، وفي ذلك الوقت كان الناس يتلهفون على القراءة ويقدّرون قيمة الكلمة، عدا ان اذاعة وتلفزيون الكويت قاموا بدور الإعلام للترويج للديوان، وأجريت لقاء في الصحافة، ومحمود العبد الله أجرى معي لقاءات عديدة، وكانت مجلة النهضة مقروءة بشكل واسع، استقبلت البحرين ديوان الصواري، استقبال رائع.
الشعر هو حياتي
تجربة الكتابة هي تجربة حياة، والشعر هو كل حياتي، ولا تكفينا كتابة الشعر فقط، وإنما نعيشه أيضاً بكل اخلاقياته في تصرفاتنا، مع الحياة ، والآخرين، والكون، وأنفسنا، الشعر عظيم وسموه عظيم، وهناك كتاب أحرص على إعادة قرائته في كل عام أو عامين، وهو كتاب فن الشعر، للدكتور إحسان عباس، وهو كتاب كلما قرأته اكتشفتُ به جمالاً جديداً، فالشعر كلما تعمقنا في فهم معنى الشعر، أكتشفنا شيئاً جديداً، لأن الشعر أخلاق في الدرجة الأولى، إلى جانب كونه ابداع لفظي، وفن متميز في سمو، قرائاتي للشعر كانت كثيرة، فحينما كنت طالباً، كنت أغلق غرفتي على نفسي وأقرأ الشعر بصوتٍ مرتفع، فتطل والدتي من شقوق الباب، وتقول : ” واعليّة، ولدي صار مينون ”، وفي المدرسة أيضاً حينما يعطوننا قصائد أمرئ القيس وعنترة، ويطلبون منا حفظ عدد معين من الأبيات، أنا كنت أحفظ القصيدة كلها، وأكون أنا من أول من يحفظ، فكانوا أصدقائي ينهروني من أن أخبر الأستاذ حين يسأل، ونكاية بهم كنت أخبره إني أنا الذي حفظت، وأقرأ بصوت جهوري، وهنا كان تأثير الدراسة في المطوع، حيث كان هناك نوعين من القراءة، وهي القراءة العادية، والاخرى وقراءة التجريد، التي تجرد الكلمة من حروفها، وأنا أتقنت النوعين.
خسارة دار النشر
دار الغد لم تربح، طبعنا فيها خمسون عنواناً، وأصدرنا مجلة كتابات التي أستمرت لمدة عشرة أعوام، لكن تراكمت علينا الديون، والنشر هو عمل تجاري، فمادام ان الكتاب بسعر معين فهو بالنهاية سلعة، وانا كنت اتعامل بأخلاقيات شاعر، فلا آخذ مقابل مادي في كثير من الاحيان، ولذلك تراكمت الديون، فأسست في قطر قسم الدراسات والبحوث في ادارة الثقافة والفنون في وزارة الإعلام، بتشجيع من طيب الذكر الدكتور عيسى بن غانم الكواري، وكان وزيراً للاعلام وفي الوقت ذاته وزيراً للديوان الأميري، وكان شخصية محورية، ورجل مثقف، وثقافته عالية، ويدعم الثقافة بشكل عام، فطرحت من خلاله هذا القسم، تأسيس وجمع وتدوين التراث الشعبي، وتوحيد جهود دول الخليج، وقطر تبنت هذه الفكرة، أثناء وجود مؤتمر وزراء الإعلام، حينما كانت العراق ضمن مجلس التعاون، والخليج سبعة دول، ولذلك جهاز تلفزيون الخليج موجود في الرياض، ووكالة أنباء الخليج في البحرين، وانتاج البرامج المشتركة في الكويت، فكانت قطر تريد مؤسسة وتبنت هذه الفكرة، وطُرحت على مؤتمر وزراء الاعلام وتمت الموافقة عليه، وكُلفت بإعداد دراسة جدوى، فأعددت دراسة الجدوي وأعددت كذلك وثائق تأسيس المركز، وتأسس المركز، وقام بأنشطة علمية وأكاديمية، وأدخلني ذلك في الجانب العلمي للثقافة.
تسجيل الاجانب لثقافتنا الشعبية
مازالت الطموحات بلا حدود، وهناك الكثير من الاشياء التي تمنيت حدوثها ولكن الظروف عاقت حدوثها، وأول عمل لي يتعلق بالثقافة الشعبية كان مع بول أولسون، وهو دنماركي قدم إلى البحرين مع البعثة الدنماركية، وكان متخصصاً في علم موسيقى الشعوب، فأحد أبناء المنطقة قال لي ان هناك أجنبي قدم إلى البحرين مع قسم الآثار، ويرغب بالذهاب إلى الدور، فطلبت منه أن يحضره، ولأني كنت أحب الذهاب إلى الدور الشعبية، فأخذته إلى هناك ورأيته يسجل ماقرا وكان في ذلك الوقت أعلى جهاز للتسجيل، وسجل في دار جناع، ودار علي بن صقر، ودار بن حربان، وكل الدور، وبعد ذلك سافر وأستمر يرسل لي رسائل باللغة الانجليزية، يسألني عن المعاني والأسماء، وكنت بلغتي الانجليزية البسيطة وبمساعدة الاستاذ عيسى الذواذي مدرس اللغة الانجليزية، أقوم بالرد عليه، والرسائل التي رددت عليه بها موجودة الآن في المتحف لأنها الرسائل التي تبادلت مع الادلاء. والشخصية الاخرى هي سايمون جارجي، وقدم إلى البحرين بعد بول أولسون، وقمت معه بالدور ذاته، وكنت الدليل الميداني، ولذلك أصبح لي هذا الاهتمام بجمع وتدوين التراث الشعبي، والتسجيلات التي سجلها بول أولسون هي أندر التسجيلات في العالم للفن البحريني، وأُصدر سايمون جارجي كتاب عن طريق متحف في سويسرا، مع دراسة منشورة وموزعة.
طُرفة بيبي متو
التراث الشعبي له أربع محاور رئيسية، المحور الأول هو الأدب الشعبي وهو الشعر والامثال والحكايات، والمحور الثاني هو الموسيقى والرقص الشعبي، المحور والثالث هو العادات والتقاليد والمعتقدات الشعبية، والمحور الرابع هو الثقافة المادية وهي الحرف والصناعات الشعبية، البحرين كانت ومازالت حاضنة للفنون القادمة عن طريق بوابة عُمان، من ساحل أفريقيا في عُمان إلى البحرين، مع هجرة الناس وتبادل الهجرات، وجاءت إلينا من عدة مناطق، واحتضنت البحرين هذه الفنون احتضان الشعب الراقي، الذي لا يستهجن الفنون ولا ينكرها ولا يسفهها، فأخذت هذه الفنون وعجنتها بدمها وعاطفتها وأعادت خلقها، وغير مناسباتها، فعلى سبيل المثال فن الطنبورة، فن جنائزي يُرقص في أفريقيا لتوديع الميت، وأهل البحرين استخدموه في حفلات الفرح، مع الابقاء على بعض طقوسه، ومن أظرف ما يروى في هذا الميدان، ان من الاغاني الساحلية التي قدمت إلى البحرين، والتي يرردها أهل البحرين، ” بيبي متو سقاني مرمره ، والشيخ عيسى لبسني خنجره ”، والمقصود به الشيخ عيسى بن علي، والبيبي متو هو الطائر، وتُغنى هذه الأغنية أمام بيت المستشار، وهي في الأصل أغنية سواحلية تقول ” بيبي واجو سقاني مرمره، والشيخ عيسى لبسني خنجره ”، وتٌغنى هذه الأغنية أمام بيت المستشار، بيبي في اللهجة السواحلية تعني الملكة، وواجو هو نخاس العبيد، الذي كان في تجارة الرق يأسر الناس، وهو أقسى نخاس عبيد، فالمقصود بالاغنية الشكوى للملكة على واجو النخاس الذي سقاهم العذاب، ولكن الشيخ عيسى آمني وأعطاني خنجره، ولكن أهل البحرين حين سمعوا بيبي واجو استبدلوها في بيبي متو، واستمرت على هذا الاساس، وهذه من الطُرف التي تُروى عن دخول اللهجة السواحلية، وطريقة تعامل أهل البحرين معها.
الاهتمام بالتراث
وختاماً أتمنى أن تُعاد دور مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربي، لأنه لم يكمل، ودخل في متاهة وبالآخر أُغلق، واغلاقه كان بالنسبة لي خسارة كبيرة، لأني أمضيتُ فيه أكثر من سبعة أعوام، وقمنا بمشاريع جميلة، وجمعنا فيه مادة ولكن للأسف هذه المادة ضاعت وأُهملت، وأنا أتمنى ان لم يكن ممكناً اعادة المركز، أن كل دولة من دول الخليج تهتم بتراثها، رغم امتلاكنا لمجلة الثقافة الشعبية التي يدعمها جلالة الملك اطال الله في عمره، ويدعمها معالي الشيخ خالد بن أحمد وزير الديوان الملكي، واستمرارها لمدة ثمانية أعوام، وتوزيعها في مائة وواحد وستين بلد، بدعم وتعاون المنظمة الدولية للفن الشعبي، وأصبحت لها مكانة أكاديمية وعلمية في العالم، ومن ينشر فيها يُرقى في جامعته، وهي بمثابة مكسب لنا، إلا اننا بحاجة الى الاكثر.
0 تعليقات